أوراق الشتات | أرشيف

جبرا إبراهيم جبرا (1920-1994)

 

المصدر: «مجلّة الآداب».

الكاتب (ة): جبرا إبراهيم جبرا.

زمن النشر:  1 آذار (مارس) 1995.

 


 

بتّ أتساءل في الآونة الأخيرة، كلّما وجدتُني منهمكًا في كتابة أعدّها مهمّة: ترى هل سيجد القارئ فيها ما يهمّه، وبأيّ مقدار؟ بل هل سيجد القارئ فيها ما يهمّه أبدًا، ممّا يبدو أنّه يهمّني جدًّا بحيث أريد الخوض فيه؟

والغريب أنّني في السنين المواضي لم أطرح على نفسي سؤالًا من هذا النوع، إذ كنتُ باندفاعي في ما أخطّه على الورق كلّ يوم، أتصوّر أنّني أقول ما يجب قوله، وما دام يهمّني، فلا بدّ أنّه سيهمّ القارئ أيضًا. وإذا لم يلقَ منه اهتمامًا، فلن يكون ذلك ذنبي، لأنّني أعطيه من أعماق القلب ومن أعماق الفكر معًا، وليس لديّ ما هو أعزّ من هذا الّذي أعطيه.

يبدو أنّ تقادم السنين لا يزيد المرء حكمة فحسب، بل يزيده أيضًا شكًّا في قيم الأشياء الّتي تتراكم لديه، وفي قيم الأفكار والآراء الّتي تتقاذف عليه من كلّ صوب، وإذا به يحسّ أنّ معظمها، في واقع الأمر، لا يعنيه في كثير أو قليل. فهل هذا الّذي يفيض به قلمهُ هو أيضًا سيلقى ذلك الشكّ نفسه من الآخرين في قيمة ما يحمل من فكر، أو موقف، أو رأي؟

إنّه تساءل مشروع، وأحيانًا مقلق، في زمن رَخص فيه ما يسمّى بالفكر، وتعهّرت فيه الكلمة ولا عهرَ المومسات. لكنّ الّذي عاش السنين الطوال بالكلمة، وللكلمة، ورآها تنعكس وهجًا في عيون الآخرين، لن يخدعه الرخيص والممومس. أو أنّ هذا ما وصل إليه من قناعة، وهي الّتي تُبقي القلم في يده، وتبقي عينيه شاخصتين إلى الأعلى وإلى الأعماق في وقت واحد.

رغم هذا كلّه، يجد نفسه متأمّلًا في ما كَتَبَ، والدهر يتغيّر ويتقلّب، ويسأل نفسه هل سيكتسح الزمنُ القادم ما عقلَنه هو وبَلْوَرَهُ بدم شرايينه وعصارة آلامه حتّى الآن؟ غير أنّ الّذي يهمّه في هذه اللحظة، فيريد تشكيله بالكتابة، أليس هو امتدادًا لما بدأ به حياته من رؤية ما، لا بدّ جاءته من أبعاد خفيّة تريد أن تتمظهر وتتجسّد؟ وهل يمكن لرؤية من هذا القبيل أن تكفّ عن فعلها، عن إلحاحها، وهي تتّصل بجذورها بما تراكم من تجربة الإنسان في أعماق وعيه المتوارثة جيلًا بعد جيل؟

وتبقى الكتابة هي ذلك الفنّ، بل ربّما الفنّ الوحيد، الّذي مهما بدا أنّه خاصّ وشخصيّ ومعنيّ بحياة صاحبه ونزعاته، فإنّ بوسعه أن يكون أيضًا، في الوقت ذاته، عامًّا ومليئًا بدلالات الآخر. ولكن، هل تتحقّق للكاتب هذه الطاقة الثانية، وهي الطاقة الأهمّ؟ هنا المسألة.

فبلوغ الآخرين عن طريق الكلمة معناه بلوغُ عقولهم وعواطفهم، بلوغُ وعيهم ولا وعيهم، على نحو يصعب تحليله، لما يحتويه من قدرات متداخلة في نسج الكتابة، بعضها معرفة، وبعضها تجربة، وبعضها سحر خالص، تؤدّي جميعًا إلى خلق ذلك التماهي العميق الغامض بين القارئ وما يقرأ؛ فيشعر أنّ ما بين يديه من كتابة يهمّه، ويثيره، ويفرحه، ويغضبه، ويعلّمه، ويدفع به إلى طلب المزيد من تجربة، المزيد من حبّ وحلم، المزيد من حياة.

وإذا لم يشعر القارئ بذلك، أو ببعضه، فقد أخفق الكاتبُ اليوم، وسيخفق غدًا مرّة أخرى، لأنّ ما يهمّ الكاتب خاصّ وشخصيّ، بل لأنّ المعرفة والتجربة والسحر لم تتوفّر قدراتها في هذا الهمّ. والكاتب الكبير هو الّذي تبقى اهتماماته وهمومه، خصوصيّاته ونزعاته، مثيرة لتماهي الآخرين معه، ومثيرة لتساؤلاتهم الدائمة حوله، جيلًا بعد جيل.

مع تقلّبات الدهر، وعوادي الزمن، يحقّ للمرء أن يتوقّف بين حين وآخر ليتأمّل في ما صنع من فنّ، وفي ما هو ما زال يصنع، وهل ما زال لما صنع فعلُهُ الّذي توقّعه ذات يوم؟

ولسوف يتّخذ العبرة من هذه البحار من الكلمات الّتي يراها في زمنه تتلاطم حوله، وإذا بها زَبَدٌ لا يبقى في الأرض، وله أن يدير لها ظهره، ولا يطلب إلّا ما يبقى متألًّقًا يأخذ العين أينما حطّه الموج، ويحاول أن يضيف بكلماته إلى هذا الألق الّذي وَحْده سيبقى ضوءًا يستنير به الإنسان وهو المهدّد دومًا بالظلام.

 

***

 

في هذا الصباح، وأنا عائد من رياضتي اليوميّة سيرًا على القدمين، صادفت صديقًا قديمًا وهو يوشك أن يدخل العمارة الّتي له فيها مكتب محاماة، فأصرّ على أن أصعد معه لشرب فنجان قهوة عنده، لأنّ لديه، كما قال، شيئًا يريد أن يطلعني عليه.

في المكتب أخرج مجلّة قديمة، وقلّب أوراقها، واستقرّ على صفحة وضعها أمامي، وقال: "لا أصدّق! لا أصدّق أنّك كتبت هذا المقال ونشرته في شهر آب (أغسطس) 1967 – قبل أكثر من ستّ وعشرين سنة! كأنّك فيه تتحدّث عن أيّامنا هذه بالذّات!".

بين الحين والحين أجدني محاطًا بشباب في أوائل عشريناتهم، يحدّثونني عن رواياتي ويحاورونني فيها، وكأنّني نشرتها أمس! ولا أنكر أنّني أدهش وأفرح معًا؛ إذ أرى أنّ ما كتبته قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة ما زال يثير اهتمام قرّاء شباب، يرون فيه ما يصوّر معاناتهم اليوم، وتطلّعاتهم وتساؤلاتهم المقلقة، وهل أقول ضروب عشقهم المحيّر أيضًا؟

غير أنّني أتساءل في الوقت نفسه: هل ما يجدونه في هذه الكتابات هو بالفعل ما أردت للقارئ أن يجد يوم نشرتها؟ هل بقيت الكلمات تحمل تلك المعاني الّتي تخيّلتها وقولبتُها وفق إرادتي، أم أنّ معاني أخرى توالدت من هاتيك الكلمات بالذات وجعلت تتقولب وفق ما هم يتخيّلون ويريدون؟

لعلّ التساؤل غير وارد، أو يجب ألّا يثير القلق: ما دامت الكلمة بقيت ولم تبدّدها رياح السنين، فلتحمل ما تولّده طاقتها الكامنة من معانٍ، كنتُ أم لم أكن أنا صاحبها. حسبي أنّني استطعت أن أشكّل الكلمات الّتي جاءت وفي تضاعيفها القدرة الغامضة على هذا البقاء والتوالد، عبر أزمان شيمتها الكبرى النكران والتدمير... وما هذا البقاء في الكلمات إلّا لأنّ معانيها الأولى تحمل أصلًا بذور الخير والديمومة للإنسان.

أم أنّ هذا وهم جميل آخر يطيب للكاتب أن يعيش معه؟ بل وهم يطيب له أن يعيش به؟

 

***

 

كثيرًا ما يُسأل المرء عن ’نقاط الانطلاق‘ في ما كتب، و’المبادئ‘ الّتي دفعته في اتّجاه التأليف... كأنّما العمليّة منطقيّة جدًّا ومخطّط لها مقدّمًا. وهذا وهمٌ صرف. نقاط الانطلاق وهميّة، والمبادئ وهميّة، مهما حاول الكاتب لاحقًا البحث عن منظور فكريّ أو زمنيّ لما حقّق. بالنسبة لي، كانت نقاط الانطلاق عفويّة، لا تتأمّل ذاتها؛ فهي تتبلور في أعماق اللا وعي وتتحوّل إلى قوّة دفع لا يفهمها المرء بوضوح، ولا يدري إلى أين هو منطلق منها. كلّ ما يعلم هو أنّ ثمّة دفعًا من داخله نحو التعبير عن ذاته، نحو استيضاح مبهمات تعبث به وتقلقه. وتجربته اليوميّة، مهما تكن عاديّة، تتراءى له في أشكال يريد تعيينها، وتحديدها، بالكلمة.

أمّا المبادئ، فهي بدايات، وليست بالضرورة أفكارًا محدّدة، والمهمّ فيها أنّها لا تسمح للذهن بأن يستقرّ حتّى يكون قد خاض غمارًا من الكلمات، والأسئلة، والمبهمات: فتستقرّ لوقت ما، ليعاود الخوض في هذا الّذي يقلقه، ويمتّعه، ويتحدّاه. وما من ريب في أنّ ثمّة غواية هائلة في الكلمات بالذات؛ فنقاط الانطلاق، إن وجدت بصيغة ما، فهي النقاط الّتي يغدو للكمات فيها إغراء قويّ، لذيذ، لا بدّ من الاستجابة له. أمّا المعاني، أمّا الأفكار، أمّا المبادئ، فتأتي في ما بعد، وبعد زمن قد يطول، حين يتراءى للكاتب أنّ هذا الّذي يطالبه بوقته بإلحاح، إنّما هو ضرب من قضيّة آن له أن يفهمها، بل إنّه قضايا.

وهل يمكن لأيّ إنسان، إلّا إذا كان مسطّحًا وبدائيًّا في فكره وعاطفته، أن يبقى في إطار قضيّة واحدة؟ العالم طوفان من القضايا. وإذا كانت مهمّة الكاتب أن يستوضح ما يجابهه من تجربة، وتكاد كلّ تجربة أن تكون قضيّة أخرى، فهو إذن مجابهٌ بقضايا يستحيل حصرها.

قد يلخّص الواحد منّا قضاياه بأنّها قضيّة الإنسان حصرًا، ولكن، الإنسان مخلوق تاريخيّ، سياسيّ، اجتماعيّ، اقتصاديّ، دينيّ، عقلانيّ، عاطفيّ، مستسلم، رافض، تقيّ، زنديق، كثير العشق، كثير الكراهية، كثير الغضب، فانٍ كمواسم الربيع، وباقي بقاء الصخر والريح الهادرة. قضيّة الإنسان إذن ألف قضيّة، والكاتب يعي ذلك وعيًا عميقًا وقويًّا، كَتَبَ في ذلك كلّه أم لم يكتب... ثمّ إنّ لكلّ تعبير مستواه بأكثر من معنى؛ فالمستويات أيضًا متعدّدة، بمعنى الصُّعُد ومجالات البحث والتفكير. وما أروع هذه التعدّديّة الّتي حبانا الله بها، تمييزًا عن الجماد والحيوان.

 

***

 

اليوم، وأنا أسوق سيّارتي، وقد دخلتُ بها نفقًا على شيء من الظلام، خطرت لي فكرة أن أكتب فقرات متوالية أقرب إلى الشعر، يتناوب فيها الظلام والنور... وخرجت من النفق إلى ضياء الشمس، واستحسنت الفكرة.

كانت سوناتات سكارلاتي تتوالى من مسجّل السيّارة، فأنا لا أطيق السياقة دون موسيقى من هذا النوع، أركّز ذهني عليها، أو بالأحرى، أستسلم ذهنيًّا لها مع انسيات الحركة، فتتداعى الأحسيس والصور، وتتمازج متعتي المطلقة بالموسيقى كموسيقى، مع تلك المستحيلات من العاطفة والخيال الّتي تعجز الكلمات عن اللحاق بها. وعندما أصل أخيرًا إلى حيث أنا ذاهب، وأطفئ محرّك السيّارة لكي أنزل منها، أكون كمن عاد من رحلة داخليّة، سرّيّة، غامضة، لذيذة، إلى الواقع الّذي لا بدّ منه والبشر الّذين لا بدّ منهم – فأنا ونصيبي معهم. وينتابني الشعور عندها بأنّني أنتقل من كثافات التجربة وامتلاءاتها إلى ما هو عابر، وهلاميّ، وعديم الأثر... أخرج من الرؤيا، الّتي بلا زمن، وأدخل في المباشر المسيّر باللحظة تلو اللحظة. لكنّني أبقى في مكان ما من دخيلتي أحمل بعضًا من الرؤيا، شئت أم أبيت. ولعلّ بعضها يتحوّل بلا وعي منّي إلى كلمات تتسرّب من أغوار مجهولة، وتستفّزتي للكتابة، كيفما جاءت.

 

***

 

في حالات البؤس والكآبة، الّتي لا أستطيع تفسيرها، أجد أنّ الصمت، لا الكتابة، هو الناجع في الشفاء منها أحيانًا. أم أنّ ذلك مجرّد شلل مؤقّت لطاقة التعبير والتوصيل؟ كنت أقول في ما مضى إنّ المرء يشتدّ به الميل إلى الكتابة في فترات البؤس أكثر منه في فترات السعادة، لأنّ السعادة، من حيث الإفصاح عمّا في النفس، أميلُ إلى العقم، إذا قيست بالخيبات والأحزان. غير أنّني في ما يبدو غيّرت رأيي، لأنّ بؤسنا أضحى لا نهاية له، فما عادت به حاجة إلى التعبير المستمرّ، وفرحنا بات أمرًا نادرًا، يأتينا في ومضات نورانيّة علينا أن نحتفي بها قبل أن يبتلعنا الظلام من جديد. أم أنّ السبب هو عيشنا في زمن بائس كئيب، راح يحاصر حتّى قدراتنا اللفظيّة؟

كلّما انتهيت من كتابة شغلتني زمنًا وأوهمتني بمتعتها وأهمّيّتها، وجدتني أفاجأ بالإحساس بأنّني فَرُغْتُ وتُهتْ، فأتساءل: هل كانت تسحقّ منّي ذلك الجهد كلّه؟ وهل جاءت عملًا دائم المعنى والسحر كهذه التوكاتا الهائلة لباهخ، أو هذه القصيدة للمتنبّي، أو هذه السونيتة لشيكسبير؟ أم أنّ ما تحقّق كلّه ليس بأكثر من وهم مجنون لود ذاته، ويستمرّ في التوالد كرؤى المجانين؟

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.